بورقيبة الزعيم والمصلح
الحبيب الجنحاني
جريدة « الشروق » 19 افريل 2011
إنني انتسب الى ذلك الجيل الذي تظاهر استجابة لنداءه ضد النظام الاستعماري، ونزل الى الشارع لاسقاط الحكومة العميلة، حكومة الكعاك، واستقبله قائدا مظفرا يوم غرة جوان 1955، ولكن ذلك لم يحل بيني وبين اتخاذ موقف نقدي من بورقيبة حاكما للبلاد، لما كتبت في أحد نصوصي المنشورة :
« وجد صاحبنا نفسه جالسا أمام تمثال الفيلسوف الفرنسي الشهير « أوغست كونت » فتذكر شغف الزعيم الحبيب بورقيبة به، مرددا في مجالسه مع المثقفين كثيرا من مقولاته، واصفا وقوفه أمال التمثال لما كان طالبا بجامعة السربون، وتبادر في هذه اللحظة سؤال محير طرحه أكثر من مرة : إنه أمر غريب أن يرتاد رجل من طينة الزعيم بورقيبة هذه الأماكن، ويتخرج من هذه القلعة المعرفية الشامخة : السربون، وأن يعيش هنا مطلع عشرينات القرن الماضي، وهي فترة سياسية وفكرية خصبة في تاريخ المجتمع الفرنسي المعاصر، ويعود إلى بلاده حقوقيا بارزا، ومدافعا عن قضية شعب بأسره، عرف في سبيل الدفاع عن حريته السجون والمنافي، ويستقبله شعبه في عيد النصر استقبال الابطال الكبار، متعلقا بزعامته حد العشق، إنه لامر غريب أن تتحول الدولة الوطنية في عهده الى دولة قامعة، وان يغرس بذرة التعذيب، ويؤسس المحاكم الخاصة لمحاكمة المخالفين في الرأي، والكثير منهم من رفاق الأمس » (من كتابي سمر على ضفاف نهر السان).
سال حبر غزير، وألفت الكتب، وصنفت عشرات البحوث والدراسات عن الزعيم بورقيبة، وهذا ان دل على شيء فانما يدل على ثراء شخصية الرجل، وعلى تناقضاتها، وعلى حماسة الجدل حولها، وهي الظاهرة التي نلمسها في آدبيات كبار الزعماء، وكي يضيف الحديث شيئا جديدا عن تاريخ الرجل أرى لا بد من تقييم سيرته الذاتية في مرحلتين أساسيتين : بورقيبة الزعيم، وبورقيبة رجل الدولة.
أود في هذا الصدد التركيز على النقاط التالية :
- من الاخطاء المنهجية التي يقع فيها كثير من المتحدثين عن الزعيم في مثل هذه المناسبات، وخاصة في وسائل الإعلام السهو عن تنزيل مراحل نضاله ومواقفه في ظرفيتها التاريخية مثل عدم الربط بين الصراع البورقيبي – اليوسفي والثورة الجزائرية من جهة، والمد القومي العروبي في المشرق العربي وبعده العربي الاسرائلي من جهة أخرى دون الغفلة عن ميلاد كتلة عدم الانحياز في باندونع 1955.
أما المثل الثاني فهو عدم الربط بين تبنيه تجربة « اشتراكية » بهبوب رياح التجارب الاشتراكية في البلدان النامية في ستينات القرن الماضي.
أما تقييم مسيرة الزعيم باعتباره رجل دولة فتبرز فيها الايجابيات والسلبيات، فهي قد أصيبت بأخطاء الممارسة السياسية، وبخاصة لما امتدت هذه المرحلة في حياة الزعيم، قد اشرت قبل قليل الى بعض هذه الاخطاء، ومن أبرزها قبول الرئاسة مدى الحياة، وإحاطة بطانة السوء به، وهو في خريف العمر مما فتح الباب الى وقوع الوطن في أيد أثمة كادن أن تنسف المكاسب التي انجزها. ولكن بورقيبة المصلح هو الذي انتصر، وهو في قبره، فاينعت البذرة التي غرسها منذ البداية، وراهن عليها، بذرة التعليم وتحرير المرأة فنزل الأحفاد ذات يوم ديسمبرى الى الشارع، ولم يعودوا الى البيوت حتى طهروا أرض الوطن. وقذفوا في مزبلة التاريخ من سعى سنوات طويلة رفقة موالية لينسى الشعب زعيمه الخالد.