تونس والوفاء لبورقيبة
حسونة المصباحي
افريل 2011
عاشت تونس يوم 6 افريل 2011 حدثا عظيما لم تشهد له مثيلا على مدى عقود طويلة. فقد توافد عليها آلاف الزوار، ومن مختلف مناطق الجمهورية، بورقيبة وبالاضافة الى الشخصيات المرموقة التي حضرت هذا الاحتفال، وجلها من الزمن البورقيبي، ومن المسؤولين الكبار الذين عملوا الى جانب « المجاهد الاكبر » ومعه ساهموا في ارساء دعائم الدولة الجديدة التي ولت بعذ الاستقلال، كانت هناك أجيال مختلفة، شيوخ وعجائز، كهول، نساء في منتصف العمر، وشبان وشابات، وأطفال أيضا. كما كانت هناك طبقات وفئات متنوعة.. اغنياء وفقراء، رجال أعمال وعمال بسطاء، فلاحون وموطفون، مثقفون وأحياء أميون ولم يوحد بين هؤلاء جميعا غير الوفاء لبورقيبة، والاعتزاز به زعيما فذا، وقائدا حكيما، وانسانا تميز بخصال نادرة لم يتميز بها بقية رجالات عصره. ومن الصباح حتى المساء ظل هذا الاحتفال الذي امتزج فيه الخشوع بالبهجة، متواصلا حتى هبوط الليل على انغام الاناشيد الوطنية القديمة، والتراتيل القرآنية. وكان من الصعب على العديد من الزوار الوصول الى القبر لقراءة الفاتحة على روح « باني تونس الحديثة ». وفي البيت العائلي « بحي الطرابلسية » كان الازدحام شديدا اذ ان جل الزوار كانوا يرغبون في مشاهد المعرض الوثائقي الذي أقيم بهذه المناسبة والذي احتوى على صور للزعيم في مختلف مراحل مسيرته النضالية المديدة سواء قبل الاستقلال أو بعده. وقد يتساءل كثيرون عن سبب أو عن أسباب هذا الوفاء المؤثر الذي أظهرت التونسيون لبورقيبة خلال الاحتفال المذكور. وأظن أن الجواب سهل وهم – أي التونسيون – يعيشون راهنا مرحلة تتسم بالتذبذب والترجرج والخوف من الحاضر ومن المستقبل بسبب افرازات الحدث الكبير الذي عاشوه مطلع هذا العام (2011) وبالتالي هم بحاجة الى من يساعدهم على مواجهة المصاعب التي قد تغرق بلادهم في الفوضى والاضطرابات الخطيرة. ولعلهم وجدوا في بورقيبة جل خصال الشخصية التي يرغبون في اللجوء اليها في هذه الفترة العسيرة من تاريخهم. وليس هذا بالامر الغريب. فبورقيبة قاد النضال الوطني من اجل الاستقلال وفي سبيل ذلك تحمل المنافي والعذاب. وقد فعل ذلك بذكاء وفطنة وصلابة ومن دون ان يضعف او يتخاذل. وعندما استلم مقاليد السلطة، حرص على مقاومة كل مظاهر التخلف والانحلال، والتزمت وحارب العروشية والامراض الاجتماعية التي قد تزرع الفتنة بين ابناء الشعب، وتنال من الوحدة الوطنية، التي تمثل حزام الامان ضد كل المخاطر. كما حرص على نشر التعليم في كل مكان. وعندما كان الحكام العرب بصرفون مبالغ طائلة لشراء الاسلحة وتكديسها في المخابئ لخوض حروب ادت في ما بعد الى هزائم منكرة كان هو يبني المدارس في كل مكان مرددا في خطبه الكثيرة بأنه لا يستطيع ان يبنى دولة حديثة، وان يوفر النجاح لبرنامجه الاصلاحي معتمدا على « شعب أمي » كان الاستعماريون الفرنسيون ينعتونه بـ »حفنة من غبار » وكان بورقيبة يتحلى بشجاعة القائد القادر على اتخاذ اجراءات غير مسبوقة متحملا مسؤوليته الكامل في ذلك. فقد كان وراء « مجلة الاحوال الشخصية » التي حررت المرأة من قيودها وجعلت منها شريكا كاملا في بناء المجتمع. وقد أثارت تلك المجلة غضب الاوساط المحافظة لا في تونس وحدها، وانما في كامل انحاء العالم العربي والاسلامي. مع ذلك تمسك بها بورقيبة جاعلا منها عنصرا أساسيا في نظامه الجمهوري. واليوم تحاول بعض الاطراف النيل من « مجلة الاحوال الشخصية » غير انها ستصاب بالخيبة في مسعاها اذ ان جل التونسيين يعتقدون ان التفريط فيها سيكون بمثابة الطعنة الغادرة للمشروع البورقيبي القائم على التنوير والتحديث والاصلاح وبناء الدولة القادرة على التجاوب مع عصرها، والتلاؤم مع مقتضياته ومستلزماته. وقبل ثورة 14 جانفي 2011 كان التونسيون وغير التونسيين يعتقدون أن بورقيبة خرج من الباب الضيق للتاريخ بعد ان دخله من بابه الواسع. ويبدو ان الاحتفال الذي انتظم يوم 6 افريل بمناسبة مرور 11 عاما على رحيله أبطل هذا الاعتقاد. فقد بدا واضحا ان جل التونسيين تغافلوا على الاشارة الى السلبيات التي طبعت شخصية « المجاهد الاكبر » ونظام حكمه مثل الاستبداد بالرأي، وجنون العظمة، والرئاسة مدى الحياة، وتجاهل ادوار رفاقه في النضال الوطني وغير ذلك مفضلين التركيز على الجوانب الايجابية. وأول هذه الجوانب ان بورقيبة كان يتميز بروح وطنية عالية جعلته ينصرف انصرافا كليا الى خدمة تونس، متجنبا اتخاذ السلطة مطية للحصول على الثروة بطبق غير مشروعة، وتخريب الاقتصاد، والسماح لـ »الحاشية » من العائلة والمقربين والمتزلفين بنهب البلاد. والاستيلاء على ممتلكات الاخرين، وتزوير حقائق الواقع وكل ما قام به خلفه بطرق حقيرة وبشعة.
وأما الجانب الآخر المشرق لدى بورقيبة والذي عاد اليه التونسيون فهو ثقافته الواسعة، ومعرفته بالتاريخ التونسي، وبتاريخ العالم، ونواميس الامم القديمة والحديثة على حد السواء، لذلك يدرك التونسيون اليوم ان بورقيبة له مكانة غاندي في الهند ومانديلا في جنوب افريقيا، وديغول في فرنسا، وغاريبالدي في ايطاليا، فهو أب لأمة كان هو السبب في ولادتها وفي بروزها…