عندما تمارس وسيلة شؤون الدولة
كمال الشطي
« مذكرات صحفي 2017 »
…وتبدو وسيلة بن عمار لأي ملاحظ هادئة الطباع قليلة الكلام قلما تجود بابتسامة… متصنعة الهيبة والوقار والكبر أيضا، وهي لا تتكلم جزافا… إن تكلمت، فبهدف تهدئة انفعالات زوجها أو إعداده بهدوء وسكينة لموافقتها على أمر تريده.
وكانت تلازم الهدوء حريصة على اخفاء اكتراثها بإقدام زوجها على تقبيل النسوة اللاتي يفدن على القصر، والتريت على خدودهن، وملاطفتهن، وابداء الإعجاب بجمالهن وأناقتهن.
…وسيلة تحرص كل الحرص على تأكيد تميزها كابنة العاصمة محافظة على مسافة معينة تجاه المنستير، وقد علمت في هذا الصدد من مصدر موثوق به في الرئاسة انها أبدت معارضتها الشديدة لرغبة زوجها إعلان المنتسير عاصمة ثانية للبلاد.
…قلما حضرت وسيلة محادثات زوجها مع أعضاده، وهي لئن شاركت أحيانا في هذه المحادثات، فإنها تتجنب حضور الاجتماعات التي تقع بمكتب الرئيس، وتتحاشى عندئذ إلى حد كبير التعرض لكاميرات التلفزة إذ هي تحرص كل الحرص على أن تؤثر على القرارات الرئاسية من وراء الستار، وأن يحسب لها حساب من قبل الحكومة والوزير الأول.
فقد أحبها بورقيبة ن كل جوارحه قبل عقود من الاقتران بها، فكان لا يستنكف عن ملاطفتها، وممازحتها، والبوح بحبه لها على رؤوس الملا.
وأورد السيد الشاذلي القليبي شهادة تؤكد هذا الاستنتاج قائلا : »كانت وسيلة تعرف جيدا شخصية الحبيب بورقيبة ومزاجه وطاقاته الكامنة ووساوسه وبواعث قلق اللحظة لديه. كانت تتسلل، ببراعة بين ثنايا هذه الآلية البديعة، خدمة للحبيب بورقيبة، لإرضائه وإبقائه أسير شراكها الناعمة(؟) ».
« …كانت تعرف ما يعتمل في أعماق نفسه، وهلي ليست أقل اقتنانا بشخصية بورقيبة وأسطورته، التي يعود إليها انعكاس صورتها المبهرة عبر الأخرين. ولكن هل كانت حقا تحب هذا الرجل التي كانت هي الوحيدة التي تنظر إليه من كل الزوايا؟ »
…وبادر بورقيبة الى تطليقها في صائفة سنة 1986 بعد معاشرة زوجية تواصلت على مدى أربع وعشرين سنة ابتداء من 12 افريل 1962 عندما تم عقد القران في احتفال مشهود بالمرسى حضره رجالات الدولة، وساده جو من الرومانسية بين الزوجين.
ولئن ساد الاعتقاد إعلاميا ان الطلاق ناشئ عن أسباب سياسية، فإن حفاياه غير ذلك، فهي أعمق إذ هي مرتبطة بدسائس بطانة السوء الذين اجتهدوا لإلهاء رئيس الدولة في فترة شيخوخته ووهنه عن الزوجة وشؤون الدولة والإساءة لتاريخه وسمعته.
ولم تخف سعيدة ساسي فرحها واستبشارها برحيل غريمتها إذ كانت تعلن خبر الطلاق لكل من تعترضه في القصر، وتعيد إعلامه ثانية وثالثة إن إعتراضته ثانية وثالثة، ولم لا رابعة وخامسة وأكثر.
وسعت سعيدة إلى إبعاد كل المقربين من وسيلة عن القصر، فقد شاهدتها يوما تتوسط حلقة نسوة دعتهن لمأدبة غداء، وهي تحدثهن بصوت مرتفع ينم عن نشوة واستبشار عن غضب بورقيبة على ابنته بالتبني هاجر بورقيبة ومغادرة هذه الأخيرة للقصر الرئاسي.
…فقد كانت هذه المرأة الحديدية الصامتة تجسم جدارا غير نافذ أمام الساعين الى الاستحواذ على إرادة زوجها ومعاكسة توجهاتها السياسية ومصالحها ومصالح المقربين منها.
كما اكتسبت على مدى عدة عقود زوجها الذي طالما استشارها قبيل إقدامه على اتخاذ قرارات هامة، وكان لها دور مشهود في السماح لمقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية بالإقامة في تونس حيث ربطت علاقات صداقة مع العديد من الزعماء الفلسطينين وفي طليعتهم الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ولئن طلقها بورقيبة، فإن ذكراها بقيت عالقة في مهجته إلى آخر أيام حياته، فقد ذكر المرحوم محمد الحبيب ابراهم والي المنستير سابقا في كتابه « بورقيبة خارج زممن الحكم » أن بورقيبة ما فتىء يذكر وسيلة في نهاية حياته وذكرها صدفة بتواتر عجيب عند وفاتها، فقد كثف بورقيبة السجين في مقر إقامته الجبرية بالمنستير ذكر وسيلة تزامنا مع انتقالها الى الرفيق الأعلى، مخاطبا محدثيه أن وسيلة ستأتي عن قريب رغم انه لم يعلم عندئذ بوفاتها.
حافظ بورقيبة على عشقه لهذه المرأة إلى حد الرمق الأخير وإن الحادثة التي أوردها المرحوم محمد الحبيب براهم، إنما تندرج في باب توارد الخواطر بل في باب توارد الأرواح بين بورقيبة وطليقته.
وقد انغرس حب وسيلة في قلب بورقيبة بل في كافة جوارحه منذ فترة الكفاح التحريري، لتصبح وسيلة هدفا عاطفيا وإشباعا نفسيا لأحاسيس وهواجس لم يقدر على إخفائها أمام المحيطين به بل على رؤوس الملأ، ولعلها كانت حلقة من حلقات المحرك الذي يدفع به المغامرة ومواجهة الأخطار.
…تحادث رئيس الدولة طويلا في الصباح مع مجماعة من وزرائه.
…وعلمت فيما بعد أن هؤلاء أثاروا مع رئيسهم التداعيات المنتظرة للوضع الاقتصادي الكارثي الذي تعانيه البلاد يومئذ، وهم زين العابدين بن على وزير الداخلية الذي أبكر قبل الجميع وغادر قبل الجميع، ورشيد صفر وزير الاقتصاد الوطني، وإسماعيل خليل وزير التخطيط والمالية، وحمادي السخيري محافظ البنك المركزي، ومنصور السخيري الوزير مدير الديوان الرئاسي.
…وطلب بورقيبة من الوزراء المدعوين تقديم كشف عن الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد، ثم التفت بعدما تلكم الجيمع الى رشيد صفر قائلا : « من هو المسؤول عن هذا الوضع؟ ».
…وعلمت يومئذ من صديق مسؤول في رئاسة الجمهورية ان الرئيس بورقيبة استشاط غضبا إثر هذه المقابلة، واختلى بنفسه في فترة القيلولة غير عابئ بكلام ابنة اخته سعيدة ساسي التي اقترحت عليه تعيين السيد الهادي مبروك وزيرا أول عتبارا حسب تعبيرها لصلته الوثيقة بالأطراف السياسية الفرنسية حيث اضطلع بخطة سفير تونس في باريس سنوات عديدة.
…كان عزل مزالي من الوزارة الأولى فقط أو أيضا من الأمانة العامة للحزب الاشتراكي الدستوري، وأفاده منصور السخيري في هذا الصدد أن العزل مزدوج.
…وقد استقبل الرئيس الحبيب بورقيبة وزيره الأول المقال بعد عدة أيام في بهو القصر، واتهمه أمام الجميع بتشنج بالغ بإفساد المناهج التعليمية والمبالغة في نشر التعريب، وكأنه أراد بذلك صرف الانتباه عن السبب الأساسي والمباشر للإقالة المتمثل في انهيار الاقتصاد وتدني الرصيد الوطني من العملة الصعبة الى حد العدم مما حدا بالبنك المركزي إلى الاقتراض بالعملة الصعبة للإيفاء بالحاجيات اليومية المتأكدة.
بورقيبة وابنة اخته سعيدة ساسي
…كانت سعيدة تسعى جاهدة الى الاستحواذ على خالها معتمدة في ذلك تضخيم الأنا النرجسية لديه الى حد يثير الشفقة أحيانا.
…وقد بلغ تأثيرها على خالها الى حد أنها تتمكن أحيانا من تحويل موقفه من الأمر الى نقيضه في برهة وجيزة من الزمن.
…وأصبحت سعيدة خلال هذه الفترة الأخيرة من حياة الزعيم الحبيب بورقيبة السياسية المرأة الحاكمة بأمرها في القصر التي يحسب لها الجميع ألف حساب متى حرصوا على الحفاظ على مواقعهم في السلطة أو متى أرادوا قضاء مآربهم الذاتية.
وحرص جل رجالات الدولة على مجالستها قبيل استقبالهم من قبل رئيس الدولة والتحادث معها سعيا الى نيل رضاها ولم لا صداقتها.
وبلغ بها الغرور إلى حد أنها أرسلت أحد أقاربها الى السيد رشيد صفر بعد أسبوع واحد من تعييه وزيرا أول طالبا منه التحدث إليه في داره في أمر وصفه بالخصوصي.
…وقد بادر هذا الرجل إلى إبلاغ الوزير الأول سلام السيدة سعيدة ساسي قائلا في لهجة تنم عن تهديد ضمني واستعراض مقدرة على العزل والتولية : »إنها تعلمك أنها بواجبها لنتحية السيد محمد مزالي من الوزارة الأولى وتقترح عليك التعاون معها لأنها لاحظت نوعا من البرودة منكم تجاهها ».