في ذكرى إعلان الجمهورية
لتونس من التجارب ما يجنبها سوء التصرف السياسي
الطاهر بلخوجة
ومن حق جيل اليوم أن يتساءل عن مدى فاعلية مبادئ النظام الجمهوري ومدى مردوده على كل المواطنين في تحقيق الكرامة والعدالة السياسية والاجتماعية وكذلك ما اكتسبته البلاد من قوة ومناعة وازدهار.
ومن واجب من بقي حيا من جيل الاستقلال أن يمد جيل اليوم معاني ملحمة نضال شعب بانتصاراته ونكساته ومن جهتي أود أن أساهم اليوم بطرح بعض الارتسامات التي مازلت تخالجني تاركا لأهل الذكر كتابة التاريخ، كنت في 25 جويلية 1957 من مواليد الثلاثينات وبهذا الاعتبار فأنا محسوب كأقراني على الجيل الثاني الذي استمتع بمزايا الجمهورية وكان من حظنا مرافقة الجيل الأول جيل النضال والتضحية ثم البناء. وكنت آنذاك كاتبا عاما مساعدا للاتحاد العام لطلبة تونس وكنا عايشنا في الخمسينات استماتة المقاومين وتعسف الاستعماريين وكنا في الطليعة ننادي بالتقدمية. وكان عسيرا علينا كبت طموحنا الأساسي إلى إقرار النظام الجمهوري وكنا أفراد قلائل نراقب نوايا ومخطط الرئيس الحبيب بورقيبة وقبلنا تجنب إثارة موضوع نوعية النظام.
فليذكر جيل اليوم الأطوار التاريخية لتلك الملحمة ودقائق تلك الأسطورة الحقيقية، فتونس التي شهدت سن أول دستور سنة 1861 تسلط عليها الاستعمار سنة 1981 وفرض معاهدة تضمن دوام العرش.
وكان التحرك النضالي سنة 1920 وتكوين الحزب الحر الدستوري بمبادرة من الشيخ عبد العزيز الثعالبي ثم جاء ميلاد الحزب الحر الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة.
وتخلصت فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية من المنصف باي بنفيه خارج البلاد والتخلص أيضا من بورقيبة بتهمة التعامل مع العدو وكان الهدف هو إبعاد باي وطني وتشويه صورة زعيم وطني وإقرار ديمومة الاستعمار.
وفي عهد الأمين باي وفي غياب بورقيبة اصدر الديوان السياسي للحزب بيانا حرره المحامي الطاهر الأخضر وقدمه صالح بن يوسف ينص أن تكون الدولة التونسية ديمقراطية في ظل ملكية دستورية لكن في بداية الخمسينات عاد بورقيبة إلى تونس ورتب المقاومة وفي سنة 1945 اندلعت حرب الجزائر واختلطت الأوراق لما نادى بن يوسف بحرب عارمة في كامل المنطقة، فساندت فرنسا بورقيبة ولطمأنة عديد الفرنسيين بتونس وفرنسا، جاء تصريح الوزير الأول آنذاك الطاهر بن عمار الذي قال فيه « إن مستقبل النظام التونسي سيكون نظاما ملكيا دستوريا يمزج بين مبدأ الشرعية الملكية بصفتها عربون الاستقرار ومبدأ الشرعية الديمقراطية بصفتها منهج الحرية ».
وأكد أحمد بن صالح في مارس 1956 « إن رفقائي في اتحاد الشغل يؤيدون الملكية الدستورية … على النمط البريطاني » وكان بورقيبة يعرف مدى تحالف الباي وبن يوسف لصد زحفه بمقابل الموافقة على توريث العرش لابنه الشاذلي باي وكان يعرف أيضا مدى تعلق أعيان العاصمة بالنظام الملكي. وشاءت الظروف أن نكون في صف بورقيبة الذي أثبت زعامته، وقد تزحزحت فرنسا بفعل حرب الجزائر فقبلت باستقلال جيرانها، وعاد الملك محمد الخامس إلى المغرب بهالة من النصر وربما كان ذلك سيكون نصيب المنصف باي لو بقي حيا. ظل بورقيبة يساير الأوضاع ويترصد الأخطاء وبدأ يحذف المنح التي كانت توزع على 222 أميرا وأميرة، ثم كانت هفوة الباي الأمين عندما طلب سريا من ممثل فرنسا أن تحافظ على مسؤولية الأمن بتونس فكان تهديد بورقيبة برد عنيف للرأي العام مما جعل الباي يرضخ ويوافق في بيانه بتاريخ 25 ديسمبر 1956 على « إحداث مجلس تأسيسي يمكن الباي من دستور يحمل طابعه ويتخذ دستورا للمملكة ».
واختار بورقيبة أن تكون الانتخابات في 8 أفريل 1957 أي في ذكرى حوادث أفريل 1938، ولم تشارك المرأة في الانتخابات ووزع نص المشروع الذي ينص على أن النظام سيكون ملكية دستورية. ولما انطلقت حرب الجزائر اختلطت الأوراق حين نادى بن يوسف بحرب عارمة في كامل المنطقة، فساندت فرنسا بورقيبة ولطمأنة عديد الفرنسيين بتونس وفرنسا، جاء تصريح الوزير الأول الطاهر بن عمار « إن مستقبل النظام التونسي سيكون نظاما ملكيا دستوريا يمزج بين مبدأ الشرعية الملكية عربون الاستقرار ومبدأ الشرعية الديمقراطية منبع الحرية ».
وطال النقاش حول هوية الدولة واقترح بعضهم أن تكون دولة مسلمة وتم الاتفاق أخيرا أن تكون دولة دينها الإسلام ولغتها العربية واقترح بعض النواب أن يكون بورقيبة فوق كل اعتبار وأن يدرج ذلك في دباجة القانون التأسيسي للجمهورية فرفض بورقيبة معللا أنه يجب أن يكون الدستور فوق كل الأشخاص » وكانت الوصية أن لا يتطرق المجلس إلى نوعية النظام حتى كان يوم 22 جويلية وجاء في صحيفة الحزب لاكسيون « أن العائلة الحسينية ذات الأصل التركي تحكم تونس منذ قرنين ونصف وهي عبارة عن شجرة ميتة سيستعد الشعب التونسي وقادته لاقتلاعها ». وجمع بورقيبة يومها صباحا سفراء تونس بالخارج وكان المنجي سليم (واشنطن) والمصمودي (باريس) والمقدم (القاهرة) والسحباني (الرباط) والطيب صويد (لندن) وحسان بالخوجة (مدريد) ومحمد المكني (طرابلس). وفي المساء جمع بورقيبة الديوان السياسي ورتب الأدوار ويوم 25 جويلية طالب رشيد ادريس بإقرار النظام الجمهوري ثم كان خطاب بورقيبة الذي أكد فيه أن الباي كان يريد دستورا تعده لجنة يعينها بنفسه وأن العائلة المالكة طلبت من فرنسا أثناء المفاوضات حول الاستقلال بالحفاظ على المادة الثالثة التي تضمن بقاء العرش ولاحظ بورقيبة من جهة أخرى بأن اتصال وقع أو كاد يقع بين جماعة اليوسفية ومجموعة من الفرنسيين لتأييد العائلة المالكة لحل المجلس التأسيسي والإطاحة بالحكومة فكان دور الوزير الفرنسي « ألان سافري » حاسما في رفض المناورة .وأصبحت تونس « جمهورية تونسية » خلافا لما اعتدته عديد البلدان من نعوت شعارات لم تطبق قط مثل الديمقراطية والشعبية الاشتراكية. ونعتز كله بان التغيير كان سلميا لم تفرضه ثورة ولم يتبعه عنف أو تعصب ولو تغالي بعضهم اليوم بوضعية الضحية. وربما كان من الأجدى الحفاظ علي تراثنا خدمة لحقبة من تاريخنا كما شان البلدان المتحضرة.
وأهم ما يمكن أن نستخلصه من هذه العلامات التاريخية الأولى هو أن طابع الجمهورية الأولى في عهد بورقيبة كان مشخصنا مما أدى إلى ذوبان الهياكل السيادية للجمهورية واضمحلال، فهي لم تتدخل في الإبان لتعديل الانحراف مثلا في عهد التعاضد أو قبيل مأساة الخميس الأسود ورغم تفوق شخصية بورقيبة نظرا لنجاح مدرسته السياسية الواقعية التي تقر أولوية الدولة علي الحزب تمادى هذا الأخير في مساعيه الخفية طورا والعلنية طورا آخر لفرض أولويته علي أساس شرعيته بناء علي تضحيات مناضليه، واهتم النظام أيضا بحرب الخلافة إما بدعم من الخارج أو بالسعي لاكتساب الحكم في الداخل، لكن علي أساس وراثة النظام برمته ولتونس دروس ضافية لتجنب الانزلاق وسوء التصرف السياسي في مواصلة بناء تونس الغد تحت قيادة مؤسسات الجمهورية الحديثة كالبلدان المتحضرة.
Laisser un commentaire