في ذكرى «الخميس الأسود» : الطّلاق الدّامي
« جريدة « التونسية
جانفي 2015
كيف حدث الذي حدث وهل كان للقذافي فيه يد ؟
تحلّ الذكرى السابعة والثلاثين لأحداث «الخميس الأسود» الدامية التي هزت تونس ذات 26 جانفي 1978 حيث دخلت البلاد في منعرج خطير من الصدامات العنيفة بين نظام الحبيب بورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل، مما أدى إلى سقوط عديد التونسيين في أُتون صراع دموي لم تُكشف جميع خباياه وكواليسه بعد، رغم طفرة المؤرخين للحدث الأسود والمتحدثين عنه.
ولعله بعد مرور كل هذه السنوات يحق لنا التساؤل عن أسباب وحيثيات الأزمة الدموية بين السلطة والمنظمة الشغيلة ولعله كذلك من حقنا طرح التساؤل التالي: ماذا حدث بالضبط وقتها؟ ومن يتحمّل مسؤولية اندلاع أزمة بمواصفات عالية من الحدة والعنف كادت أن تحمل البلاد إلى ما لا تُحمد عقباه وقتئذ؟
تاريخ تونس الحديث يؤكد أن العلاقة بين الحزب الدستوري الحاكم والاتحاد العام التونسي للشغل شهدت تصدّعا حادا بداية من السبعينات نتيجة مطالب عمالية ونقابية وسياسة التصعيد التي انتهجها نظام بورقيبة خاصة بإعلان الاتحاد الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978 بعد انعقاد مجلسه الوطني أيام 8 و9 و10 جانفي 1978 وكانت هذه التواريخ بداية الحسم في قرار الإضراب لا سيما بعد فشل جميع المساعي الداخلية والخارجية لفض النزاع واشتعال فتيل المسيرات والمظاهرات التي عمت البلاد خاصة بمدينتي صفاقس وقصر هلال التي واجهها نظام بورقيبة بالخيار الأمني وذلك قبل أيام فقط من موعد 26 جانفي وبعد إقالة وزير الداخلية آنذاك الطاهر بلخوجة المعروف بعدم ميله إلى الحل الأمني وتعيين وزير الدفاع عبد الله فرحات مكانه، مما ساهم في اشتعال الوضع أكثر ونزول الجيش لأول مرة إلى الشارع وانتشاره في العاصمة يوم 26 جانفي من نفس السنة.
وتؤكد تقارير مستقلة أن حوالي 400 قتيل سقطوا في الأحداث وجرح أكثر من ألف مواطن نتيجة المواجهات بين الجيش الوطني وبوليس بورقيبة من جهة والمتظاهرين من جهة أخرى، في حين أقرت حكومة الهادي نويرة بسقوط 52 قتيلا و365 جريحا فقط.
كما شهد يوم 26 جانفي 1978 حملات اعتقالات واسعة في صفوف النقابيين مركزيا وجهويا تلاها تنصيب قيادة نقابية موالية للحكومة ترأسها التيجاني عبيد خلفا للحبيب عاشور الذي زُج به في السجن ليبدأ بعد ذلك نظام بورقيبة سلسلة من المحاكمات لرموز اتحاد الشغل بسبب إقرار الإضراب العام الذي مثّل الضربة القاصمة للعلاقة بين الاتحاد وحكومة الهادي نويرة والتي ستكون لها تداعيات هامة في أحداث الخبز 1984.
وللإحاطة أكثر بالموضوع اتصلت «التونسية» بعدد من وزراء بورقيبة ممن عايشوا أحداث 26 جانفي عن كثب فكانت شهاداتهم لنا وللتاريخ كالآتي: مطالب تعجيزية ومزايدات نقابية
قال محمد الصياح مدير الحزب الاشتراكي الدستوري آنذاك وأحد أقطاب التيار المحافظ إلى جانب الوزير الأول الهادي نويرة وعبد الله فرحات وزير الدفاع، إن أحداث 26 جانفي 1978 كانت نتيجة تراكمات دامت عدة أشهر قبل اندلاع الأزمة مشيرا إلى أن اتحاد الشغل وضع عدة مطالب تعجيزية على طاولة حكومة بورقيبة مضيفا أن النظام استجاب لجملة من المطالب التي نادت بها القيادة النقابية والطبقة الشغيلة ملاحظا أنه تم توظيف المطالب النقابية لغايات سياسية بحتة وغير معقولة أبدا على حد قوله.
الشق الماركسي أذكى فتيل الأزمة وأوضح الصياح أن ما حدث في «الخميس الأسود» هو نتيجة لعملية المزايدة السياسية التي انتهجتها قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل مؤكدا أن المطالب النقابية كانت مشطة وأن الهدف كان ضرب الحزب الدستوري ملاحظا في ذات الصدد أن شقا معينا ذا نزعة ماركسية لينينية بالاتحاد العام التونسي للشغل هو المسؤول عن تصعيد الأوضاع نحو التأزم والتصادم مضيفا أن حكومة الهادي نويرة استجابت لعديد المطالب وقبلت حتى بوجود مراقبين من الخارج لتفادي الصدام وإنجاح المفاوضات وأن الاتحاد بشقه الماركسي كان يصعّد الموقف بالتهديد بالإضراب العام وتعجيز نظام بورقيبة وإلحاق الضرر بالمؤسسات العمومية الكبرى. وأضاف الصياح إنه لم يكن ممكنا تفادي الصدام نظرا للمطالب النقابية التعجيزية على حسب تعبيره وأنه لذلك حدث ما حدث. وأكد محمد الصياح على ضرورة قراءة التاريخ جيدا للوقوف على الحقائق. مسؤولية مشتركة من جهته أفاد منصور معلّى وزير التخطيط في عهد بورقيبة من سنة 1970 إلى سنة 1974 أن أحداث 26 جانفي 1978 اندلعت نتيجة تراكمات وخاصة بعد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري في الستينات مضيفا أن المشاكل النقابية بدأت تطفو على السطح في تلك الفترة مشيرا إلى أنه حتى سنة 1974 كان الوضع الاقتصادي بالبلاد جيدا بل استثنائيا وأن الحكومة استجابت لبعض المطالب النقابية آنذاك لكن تأزم الوضع الاقتصادي بعد عام 1974 والمطالب التي نادى بها الاتحاد العامالتونسي للشغل لم تراع مصلحة البلاد والظروف الاقتصادية التي كانت تمر بها تونس حينها ولذلك حدث ما حدث بعدما دخل الطرف النقابي والطرف الحكومي في صراع دام رغم تدخل بعض الأطراف التي حاولت تفادي الإضراب على حد تعبيره. شطط نقابي وغياب الوعي الوطني وأوضح منصور معلّى أنه كان خارج السلطة وقتها ولكنه تابع ما حدث بدون أدنى شك، موضحا في الأثناء أن المسؤولية تقع على نظام بورقيبة وعلى الاتحاد في نفس الوقت وأنّه كان هناك شطط من الجانبين مشيرا إلى أن اتحاد الشغل لم يراع الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد وأن النظام ارتأى خيار المواجهة ولذلك حدثت الأزمة العاصفة بينهما على حد تعبيره.
وشدّد معلّى على أن غياب الوعي الوطني والقومي لقيادة المنظمة الشغيلة وقتها هو ما أدى إلى اندلاع الأزمة مبينا أن الظرف الاقتصادي وقتها لم يكن ملائما لتحقيق المطالب النقابية المشطة بل لا يتحمل تلك الزيادات أصلا، ملاحظا في الأثناء أن النظام كذلك إرتأى خيار المواجهة نظرا لعناد المنظمة الشغيلة وعدم تراجعها عن تنفيذ قرار الإضراب العام رغم تدخل عديد الأطراف التونسية وغير التونسية حتى يتراجع الاتحاد عن تنفيذ الإضراب العام ولذلك حدث ما حدث. تحالف عاشور مع المصمودي وتابع محدثنا بقوله إن واقع العلاقات التونسية الليبية المتأزم على خلفية فشل مشروع الوحدة بين البلدين سنة 1974 ساهم بدوره في احتداد الوضع بين النظام والاتحاد على إثر طرد العملة التونسيين من ليبيا إضافة إلى وجود نوع من التحالف عقدته قيادة الاتحاد مع محمد المصمودي مهندس مشروع الوحدة ضد الوزير الأول الهادي نويرة مما أدى إلى حدوث الكارثة. فشل ساسة اليوم وتغوّل الاتحاد وتابع معلّى في مقارنة بين دور الاتحاد في عهد بورقيبة ودوره في المرحلة الحالية أن فشل السياسيين الذريع وضعفهم هو ما أدى إلى تدخل المنظمة الشغيلة في الشأن السياسي من ذلك ترؤّس مفاوضات الحوار الوطني وغيرها الأمر الذي جعلها في مركز قوة وتغوّل جديدين مبينا أن للاتحاد العام التونسي للشغل دورا تاريخيا لا يمكن إنكاره كامل فترات تاريخ البلاد ولكن هذا الأمر لا يسمح له بالتغول وعدم الوعي بمصلحة البلاد ملاحظا أن هذا التغول تسبب في انفلات الأفراد عن القيادة التي أصبحت مجبورة على محاذاة المطالب النقابية التي لا تراعي المصلحة العليا للبلاد مشددا على ضرورة توفر الوعي الوطني والمدني والقومي في المنتمين للمنظمة الشغيلة ملاحظا أنّ المطلوب من الحكومة المقبلة وضع إستراتيجية واضحة للتعامل مع المطالب النقابية من أجل المحافظة على المصلحة الوطنية العليا.تسلسل أحداث وتراكمات
الطاهر بلخوجة وزير الداخلية في حكومة بورقيبة الذي أقيل أياما فقط قبل اندلاع الأحداث قال إن «الخميس الأسود» كان نتيجة طبيعية لتسلسل جملة من الأحداث والوقائع والتراكمات خلال بداية السبعينات مضيفا أن الحزب الحاكم آنذاك قرر إحداث شعب دستورية مهنية مباشرة بعد انعقاد مؤتمره في نوفمبر 1964 بمدينة بنزرت وأن ذلك مثّل منطلقا للتناحر والتنافس مع الاتحاد العام التونسي للشغل ملاحظا أن الشّعب الدستورية كانت ترابية تعنى بالوضع في البلاد، في حين كانت شعب الاتحاد نقابية تهتم بالطبقة الشغيلة مما ولد تنافسا وصراعا بين الحزب الحاكم والاتحاد على حد قوله.
الحبيب عاشور نظّر للأزمة قبل وقوعها و أضاف الطاهر بلخوجة أن ما حدث يوم 26 جانفي 1978 لم يكن عفويا بل نتيجة تراكمات منذ سنة 1964، من ذلك أن الحبيب عاشور كتب رسالة واضحة في جانفي 1965 نظّر فيها للأزمة مضيفا أنه في السبعينات تجسدت وتكرّست الخلافات أكثر بين الاتحاد العام التونسي للشغل ونظام بورقيبة مشيرا في سياق متصل إلى أن عديد المواقف زادت الطين بلّة وجعلت الأزمة أمرا واقعا لا يمكن تفاديه أهمها زيارة الحبيب عاشور إلى ليبيا في فترة شهدت تأزما للعلاقات بين تونس وليبيا على خلفية فشل الوحدة الليبية التونسية. ولاحظ محدثنا أن حكومة الهادي نويرة آنذاك اتهمت الحبيب عاشور بالتوافق أو التواطؤ مع معمر القذافي وقتئذ. بورقيبة استجاب للمطالب النقابية والاتحاد هو المسؤول وأكد الطاهر بلخوجة أن نظام بورقيبة آنذاك استجاب لمطالب الاتحاد في جانفي 1977 وذلك بالإمضاء على وثيقة «الوفاق الوطني» وأن الاتحاد حقق على خلفية هذا الوفاق مكاسب هامة وأصبحت له مكانة كبيرة وثقل هام. وأضاف بلخوجة أنه في آواخر سنة 1977 وبعد مؤتمر الاتحاد في شهر مارس من نفس العام اتخذ بعض مؤتمري الاتحاد اليساريين موقفا سلبيا من الوفاق الوطني ولم يرتضوا هذا الوفاق لإنهاء الأزمة الشيء الذي لم يعجب الطرف الحقوقي وقتها لأنه لم يقبل ولم يكن بإمكانه أبدا القبول بتفوق الاتحاد سياسيا على الحزب الحاكم ولذلك اندلعت الأزمة على حد تعبيره. تعنّت ورصاص وأكد بلخوجة أن الطرف النقابي مسؤول عن التصعيد الخطير نحو الأزمة وأن الطرف الرسمي هو المسؤول الأكبر عن الأزمة معتبرا أنه كان من واجبه الحفاظ على الاستقرار والتعايش السلمي مشيرا إلى أنه يوم 26 جانفي 1978 تقرر الإضراب العام فكان الرد بالرصاص ملاحظا أن الحبيب عاشورطلب من النقابيين عدم الخروج من منازلهم ولكن المواطنين خرجوا وتظاهروا وكذلك المترصّدون والدوائر التي كانت ضد الإضراب وحدث الأمر المقضي على حد قوله. أحداث قصر هلال و أوضح وزير داخلية بورقيبة أن أكتوبر 1977 كان بدوره حاسما في اندلاع الأزمة إذ اشتعل الوضع بقصر هلال مشيرا إلى أنه رغم محاصرة الاحتجاجات والاحتقانات بلا خسائر بشرية فقد ثبت أنه لا يوجد أي تأثير للحزب الاشتراكي الدستوري على المواطنين بعد هذه الصراعات وأنه لذلك ورغم فض الإشكال أمنيا بقي الاحتقان قائما على حد تعبيره. أما السبب الثالث الذي كان حاسما في اندلاع المواجهات حسب الطاهر بلخوجة فهو التجاذب السياسي بين مكاتب الاتحاد الجهوية ولجان تنسيق الحزب الحاكم الذي أصبح كالخبز اليومي إضافة إلى تهديد الحبيب عاشور بالقتل من طرف أحد المعروفين بسوابقهم العدلية الشيء الذي استغله عاشور في الدفاع عن نفسه والظهور بمظهر المستهدف. كان بالإمكان تفادي الصدام وشدد بلخوجة على أنه كان بالإمكان تفادي الصدام الدموي بين نظام الزعيم بورقيبة والاتحاد لو شعر الطرفان ولو للحظة بخطورة الوضع آنذاك ولو لم تكن الغاية تركيع الاتحاد وإخضاعه على حد تعبيره. وأضاف أنه شخصيا أُقيل من وزارة الداخلية لأن البعض كان يعتبره الحاجز الوحيد الذي يعيق حدوث المواجهة مذكّرا أن إقالته تسببت في استقالة 6 وزراء آخرين مثل عزوز الأصرم والمنجي الكعلي ومدير الأمن أحمد بنور وغيرهم، حسب ما جاء على لسانه.