حقنة مهدئة الأعصاب
جريدة الوطن العربي
في نهاية العام الماضي بدت ظروف اعفاء طاهر بلخوجة وزير الداخلية السابق فجأة من منصبه بينما كان في زيارة خاصة لفرنسا وظروف تكليف وزير الدفاع بمنصبه ثم ظروف استقالة الوزراء الستة بمثابة مؤشرات على أن تونس ستشهد في العام الجديد مواجهة حتمية بين حكومة الهادي نويرة كممثلة للنظام القائم وللاتجاهات البورقيبية وبين الحركات المعارضة التي بدت تتمتع بمظلة سياسية من الحركة النقابية رغم ان الزعيم النقابي الحبيب عاشور هو عضو في المتكتب السياسي للحزب الحاكم…
ولكن مهمة سد الثغرة الوزارية لم تكن بالعسيرة على الهادي نويرة الذي اقرا للجميع بأنه الساعد الايمن الحقيقي للرئيس بورقيبة الذي وضع كل ثقله السياسي بجانبه مع الاحتفاظ بدور الحاكم الاعلى.
…في مدينة قصر هلال حيث تطور الاضراب العمالي الى حركة عامة اتخذت مظهر العداء للنظام واستمرت طيلة خمسة أيام قبل ان يتدخل الجيش لقمعها.
…وكان من راي وزير الداخلية السابق اذ كان المسؤول الاول عن الامن والنظام خلال العامين الماضيين ان المشكلات التي تواجه تونس في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة يجب ان تحل بالتفاوض والتفاهم وليس بالعصا البوليسية ووسائل القصر…
وربما كان الاختلاف في تقييم خط الاضطرابات المحلية على السلامة العامة الذي ادى الى تدخل القوات المسلحة في ضبط اضطرابات كانت من اختصاص الشرطة المدنية.
وبدا واضحا ان الوزراء الذين استقالوا بعد اعفاء بلخوجة من منصبه يشاطرونه الرأي ويتحمسون مع الطبقة المثقفة المتزايدة عددا في طلبها وجوب ضمان مزيد من حرية الصحافة والعمل السياسي المشروع وبشكل يتجاوز ما تسمح به مزاولات الحزب الاشتراكي الدستوري…
…فليس بالخبز وحده يحيا الانسان…
وعلى ما يبدو فان التطورات الوزارية الاخيرة تضع الوضع الداخلي في تونس على مفترق الطرق..
وعلى هذا الصعيد اثبت الهادي نويرة تعمقه في فهم التعاليم البورقيبية وأساليب التوازن، فانهى وصاية وزير الدفاع على وزارة الداخلية.. وهي وصاية لم تستمر اكثر من 48 ساعة بعد اعفاء طاهر بلخوجة.
ولم يجد الهادي نويرة اي عناء في انتقاء أعضاء وزارته المجددة من بين العناصر الدستورية المتصلبة التي تشاطره الرأي في وجوب اتباع سياسة اكثر حزما على الصعيد الداخلي.. وعلى صعيد الدفاع عن مكتسبات ومواقع الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم..
وكانت استقالة الحبيب الشطي من وزارة الخارجية أهم مؤشر على عمق الخلافات التي كانت تعصف ضمن وزارة الهادي نويرة…
ومن ثم تبين عبر مراسيم التعديل الوزاري ان الرئيس بورقيبة قرر ان يوالي بالتأييد الكامل رئيس وزرائه.. ولكن ذلك لا يعني في نظر المراقيبن الذين يعرفون مواهب الرئيس بورقيبة في رسم المخططات الطويلة النفس.
استهل الهادي نويرة عهد « الحزم والعزم » بحل وسط لمشكلة اضراب عمال المناجم استجاب غيره لاربعة من مطاليبهم الجوهرية ومنها زيادة الرواتب وزيادة علاوة العمل الليلي وزيادة العطلة السنوية.
والواقع ان التعديل الوزاري كان مطروحا على بساط البحث منذ عدة أسابيع وبخاصة في أعقاب اضطرابات مدينة « قصر هلال » في 25 اكتوبر وفي الحين تدخل الجيش لقمع الاضطرابات واعادة النظام بطلب من رئيس الوزراء ضد رأي كل من وزير الداخلية والخارجية السابقين.
…اتهم الهادي نويرة اتحاد الشغل بأنه يفتح صفوفه للمعارضين والهدامين ويعطي مظلة سياسية لاعداء النظام.. وبالطبع لم يكن رئيس الوزراء مرتاحا الى طريقة معالجة وزير الداخلية السابق للأمور والى الحلف الثنائي بينه وبين وزير الخارجية السابق الحبيب الشطي.
…وما لبث الهادي نويرة ان ألمح في خطاب له ان بلخوجة راحل قريبا.. فقد قال : »ان الحكومة على استعداد لمجابهة الاضطراب الاجتماعي بكل الوسائل لأنه من صنع اعداء النظام الذين يستثمرون النقابات. وان محاولة اضعاف سلطة الدولة باسم الاتجاهات التحررية التي يسار فهمها غالبا انما هي محاولة ترقي الى عرقلة التنمية والاخلال بالوحدة الوطنية..
وكان بلخوجة بالذات مقصودا بهذا الكلام فهو في طليعة الفئة الوزارية الحزبية القائلة بمزيد من التحرر السياسي وبالتفاهم مع المعارضة عبر الحوار للتفاهم على وسائل معالجة النزاعات الاجتماعية والمشكلات الاقتصادية الداخلية..
واذا كان يصح ان تتخذ اول مبادرتين للحكومة التونسية الجديدة (التفاهم مع عمال المناجم والسماح بصرو مجلة الرأي) مقياسا للاتجاهات الجديدة في معالجة المشكلات التونسية فانه يمكن القول وبخاصة في ضوء التزام الوزراء المستقيلين الصمت ان هنالك جوا تجري تهيئته بتوجيهات من الرئيس بورقيبة لحوار بين مختلف الفئات التونسية يستهدف حلا وسط مقبولا وعمليا ومن نوع الحلول الوسط العملية التي كانت دائما السمة المميزة للبورقيبية…