ثورة الخبز
عن الطاهر بلخوجة : « سيرة زعيم
تقع انتفاضات كل مرة في شهر جانفي، وتحتم كل مرة حصول احداث مفجعة، وأصبح الشهر ينعت بشهر المصائب.
جانفي : 1969 المواجهة الدموية بالوردانين.
1974 وحدة جربة
1978 مأساة الخميس الأسود
1980 أحداث قفصة
1984 انتفاضة الخبز
اندلع « نورة الخبز » وتمثلت في انتفاضة شعبية دامت أسبوعا من 27 ديسمبر إلى 6 جانفي 1984، احتجاجا على قرار مضاعفة أسعار الخبز ومشتقات الحبوب. وكانت على غرار انتفاضة القاهرة والدار البيضاء في جوان 1981 وما تبعتها من مآسي.
وكان وزير المالية والتخطيط منصور معلى شارك في شهر ماي 1983 مباشرة في حوار في التلفزة مع ممثلي اتحاد الشغل الطيب البكوش واتحاد الصناعة والتجارة الحبيب ماجول وعدد من الصحفيين، لتحسيس المواطنين بتفاقم عجز الميزانية، بسبب الدعم لسد الفارق بين السعر الحقيقي وأسعار البيع لبعض المواد الغذائية، وإذا بالوزير الأول يفاجئ الجميع، ويتدخل هاتفيا من منزله مباشرة في التلفزة، واعدا بأن « سعر الخبز لن يرتفع ». وأدت هذه الفضحية العلنية الى الغاء المناقشات المباشرة في التلفزة.. ولم يكن معلى ينوي قط مضاعفة سعر الخبز ومشتقات الحبوب دفعة واحدة.
وفي اكتوبر 1983، أي 3 أشهر فقط على إقالة منصور معالى. يقر مجلس الوزراء إلغاء الدعم. فارتبك الجميع لتناقض الوزير الأول ولرهانه الخطير برفع الزيادات الى 108 % للخبز و80% لمشتقات الحبوب.
حرص الوزير الأول على تهيئة رئيس الدولة للقرار الحاسم، فأوفد إليه زكرياء بن مصطفى رئيس بلدية العاصمة، الذي أطنب بأن صناديق الفواضل والمزابل مملوءة خبزا لتدني سعره، وأردف : إن مربي الماشية والحيوانات يفضلون الخبز كعلف لدوابهم لرخص ثمنه.
وفي 14 ديسمبر 1983، حصل اجتماع موحد للديوان السياسي والحكومة دام أربع ساعات، واتصف بحجم التناقضات وتشبث الوزير الأول بالزيادات مستغلا مساندة رئيس الدولة له.
فتدخل في الاجتماع إدريس قيقة وزير الداخلية، ووصف القرار « بالقفزة في المجهول ». وبلغ المنجي الكعلي مدير الحزب رأي الحزبيين وحذر من أي مغالات في الموضوع. واقترح وزير البريد بالعمل على نسق مصر أي بالحفاظ على سعر الخبز وبتخفيض الوزن.
أصبح الاجتماع الوزاري يماثل مؤتمر شعب الحزب. وانصرف الجميع مذهولين. واختار الوزير الأول أن يدفع القرار دون التداول مع أعضاده أو ببسطة على نواب الأمة. فكان الاجتماع الوزاري المضيق لتنفيذ الزيادة، ولم يحضره وزير الاقتصاد المعني الأول بالأمر، فاغتاظ لذلك واستقال من الحكومة.
ووأخذ الوزير الأول يردد المثل التونسي : إن الدواء مر عند ابتلاعه ولكن سريعا ما يقع نسيان قساوته ». عم التململ البلاد، وراجت الإشاعات وخاصة في الجهات الضعيفة غربا وجنوبا. وكان رد الفعل حادا. وبدأت الأحداث في أقصى الجنوب : فثأرت مدن دوز وقبلي يوم 27 ديسمبر، والتحقت بها في الغد الحامة وقابس.
وفي مجلس الوزراء أعلن الوزير الأول عن عدم التراجع مهما كانت الصعوبات. فحذر وزير الداخلية من مواجهة يصعب للأمن صدها. فناقضه وزير الخارجية الباجي قائد السبسي ليعلن « حسب تجربتي كمدير سابق للأمن أن الموضوع اكتسى صبغة إقرار الأمن وحفظ النظام بكل الوسائل ».
حضر بورقيبة بقصر هلال اجتماعا قاتما كانت الوجوه فيه مكفهرة. وفي تونس، قذفت سيارته بالحجارة طوال الطريق. وفي العاصمة عند الرجوع نظرا لكثافة المتظاهرين، ركب رئيس الدولة سيارة الشرطة واستوجب الأمر التعريج على مدينة المرسى : وكان ذلك يقع لأول مرة في حياة بورقيبة.
أبدى الرئيس استغرابه لعدم مخاطبة الشعب من طرف الوزير الأول فتحول توا إلى دار التلفزة في سيارة مدرعة تابعة للجيش وقال : « إن ما قررته الحكومة هو نابع من تفكيرها الدائم في مصلحة الشعب… ولتوفير اعتمادات جديدة تسمح بانجاز مشاريع جديدة… إن هاته الأحداث أثبتت أن الاستقرار واستتباب الأمن في البلاد ونجاح المسيرة التنموية قد يخفي عناصر طفيلية تتربص بهذا النظام »…
واستمرت الانتفاضة عدة أيام رغم إعلان حالة الطوارئ، وبلغ عدد القتلى حسب المصادر الرسمية 89 قتيلا و150 جريحا. أما المجلة الأسبوعية الصادرة بباريس فإنها أعلنت عن 143 قتيلا و500 جريحا. حسب إحصاء تم في المستشفيات. وبلغ عدد المعتقلين زهاء الألف.
وأعلن محمد مزالي في مجلس الوزراء عن ضرورة إقرار الزيادات، فسانده بالخصوص وزير التعليم قائلا : »إن الوزير الأول هو أول مربي وأن المربي لا يتراجع في العقاب ». إن ولاة مدينتي قفصة وقابس نقلوا إليه بعض الهتافات الدالة عن أصل المتظاهرين وانتمائهم : « لا إله إلا الله بورقيبة عدو الله ». تبين بعد ذلك من أن السبب الأساسي هو ارتفاع الأسعار، وتمادت موجات العنف في ضواحي العاصمة وخاصة منها المرسى والكرم واكتسح التمرد المنستير واشتد في قابس وصفاقس وقفصة.
وانقضى أمر الوزير الأول. وكان رئيس الدولة عازما على تعويضة يوم الغد. وأسرت وسيلة أن الاختيار وقع على منصور معلى لحكنته الاقتصادية، وكان بورقيبة قد تخلى عنه في جوان الماضي على مضض.
أعلن الرئيس هذه الكلمات الوجيزة في التلفزة : »ألغيت جميع الزيادات. بارك الله في الشعب التونسي، وليكن في علم الشعب أني لم أوافق على إدخال شيء من الترفيع على أسعار تلك المواد الأساسية، إلا عند ما قيل لي أن الخبز أضحى علفا للبقر، ويلقي في صناديق القمامة… وأتذكر أني سألت ذات يوم في مجلس الوزراء عن صحة الخبر »…
فكانت الغبطة عارمة عند المواطنين، وتوافد عند الزوال سكان تونس العاصمة على قصر قرطاج يهتفون » يحي بورقيبة، يسقط مزالي « بالأمس مزالي واليوم الشعب. نفديك بالدم بالروح يا بورقيبة.
في نفس اليوم، اجتمع مجلس النواب، وألغي جميع الزيادات، مناقضا هكذا نفسه بنفسه في أقل من 48 ساعة.
أبدا تواجد أكثر من ألف شرطي في العاصمة.. ولا يجب أن ننسى أن شرطتنا ليست مؤهلة إلى المواجهة مهما يقول بعضهم…
إن مضاعفة ثمن الخبز كان يمكنني من 140 مليون دينار… حقا كان يجب مواجهة موضوع الخبز… لقد قمت بذلك… إن قول الحقيقة للشعب يستوجب الشجاعة »…
لم يقتنع عموم الشعب بانتهاء الأزمة بذلك الشكل، شكل الوزير الأول لجنة تحقيق يوم 15 جانفي 1984.
استاء محمد مزالي من جبهة لم يحسب لها حسابا. فسعى إلى احداث الفراغ حول رئيس الدولة بابعاد كل أعضاده القدامى وأقربائه. وفي جويلية 1985، حصلت ثورة داخل القصر تمثلت في إقصاء علالة العويتي رفيق بورقيبة منذ نصف قرن. وتواصلت الحملة يوم 7 جانفي 1986 بعزل بورقيبة لابنه من منصف المستشار في الرئاسة بعد مقابلة أليمة. وحذفت خطة الممثل الشخصي من الحكومة، وخرج المنجي الكعلي في 21 جانفي، وتمثل بالنسبة لي شخصيا في الحث على إعداد ملف قضائي حول تصرفي المالي والاداري.
وتفاقمت الأزمة الاقتصادية التي كانت تشبه في ثوابتها ومعطياتها وأرقامها أزمة « الاشتراكية » سنة 1969.
تحول عدد من الوزراء من تلقاء أنفسهم يوم 8 جويلية 1986 الى قصر صقانس بالمنستير، وشرحوا للرئيس حقيقة الوضع المتردي في البلاد، وكان ذلك في غياب الوزير الأول.
تداول على الحديث رشيد صفر وزير الاقتصاد، وزين العابدين بن علي وزير الداخلية واسماعلين خليل وزير التخطيط، ومنصور السخيري مدير الديوان الرئاسي وحمادي السخيري محافظ البنك المركزي، وبينوا لرئيس الدولة كل حسب مسؤولياته أن « البلاد على بركان » اجتماعيا، وأن حالتها الاقتصادية متداعية للغاية، وأن الرصيد المالي في البنك المركزي بلغ منتهاه، وأن ضميرهم دفعهم إلى إعلام رئيس الدولة مباشرة. فتسال رئيس الدولة عن سكوت الوزير الأول.
أتى محمد مزالي نفسه إلى المنستير وكما أكده مراسل الصحيفة فرنسية لم يقف بورقيبة عند دخول مزالي قاعة الاستقبال كما هي عادته، واقتصر رئيس الدولة على لومه : « عربت الكثير في التعليم ».
وقال بورقيبة ذلك كتعلة حتى لا يعلن عن أي أزمة في البلاد، ويحصر الموضوع في أسباب عرضية، وذلك ما عرفناه عن بورقيبة في كل الأزمات حتى لا يشغل الرأي العام وحتى لا يتحدى الأحداث.