Traité Tunisie-Algérie Discours Lagham – 8 janvier 1970

Traité  Tunisie Algérie  : Discours Lagham     

  8 janvier 1970

 

 

النص الكامل للكلمة التي ألقاها السيد الباهي الأدغم .

 

يطيب لي قبل كل شيء أن أشكركم على الكلمات التي تفضلتم بها وتفاوءلكم بمستقبل العلاقات لا بين بلدان المغرب العربي الكبير، واود ان انوه بصفة خاصة بموقف الصحافة الجزائرية والإذاعة والتلفزة وممثلي المجلات وبصفة عامة كل وسائل الإعلام الجزائرية التي منها من تفضلت باستيضاحي حول موضوع الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بالأمس في موكب تاريخي مشهود.

وفى الحقيقة ان هذا الاقتراح هوعين ما كنت أود ان أقوم به تلقائيا منتهزا هذه الفرصة لاطلع إخواننا الجزائريين على طريقة العمل التي نتوخاها في تونس، وهذه الطريقة ليس لها ظاهر و باطن، وليس لدينا لغة نخاطب بها الصحافة الأجنبية وأخرى نخاطب بها الصحافة الداخلية وأخرى نخاطب بها الشعب، بل عندنا لغة واحدة، والمواقف التي تتخذها الحكومة و التصريحات التي تصدر عنها هي لديها أداة ذات استعمال موحد، وكل أعمالنا تستمد قوتها و مضاءها من ضرورة الاتصال المباشر بالرأي العام و بالمواطنين باعتبارهم مسؤولين مثل الحكومة عن حظوظ البلاد و عن سياستها و علاقاتها الخارجية، و نعتبر هذا من الأمور الطبيعية التي لا محيد عنها.

وسعيا إلى تشريك كل المواطنين في تتبع أطوار هذا الحدث الجليل رأيت من المفيد أن أخاطب الناس بما يفهمون أي بلغة شعبية وأجيب في الآن نفسه على الأسئلة التي قد تفضل بإلقائها إخواننا بهذه المناسبة.

على أن ما أشار إليه ممثلو الصحافة الجزائرية أو الصحافة التونسية و ما سمعناه في الإذاعات لا يشفي الغليل سواء بالنسبة لمواطني القطر الجزائري الشقيق أو للمواطنين التونسيين، ضرورة أن ما قيل حول الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بالأمس إنما يقتصر على المظاهر الخارجية و النواحي الشكلية.

حدث تاريخي له أبعاده

لا محالة أن ثمة منطلقا جديدا وحدثا تاريخيا له أبعاده و له أثره العميق بيد أنه لم يقع التعرض بصفة واضحة إلى منطلق هذا الحدث العظيم وإلى ما يحتوي عليه من لب إذ في ذلك المحرك الأساسي الذي فتح أمامنا الطرق و السبل التي توصلنا بفضلها إلى وضع الاتفاقيات المتعلقة بتنقلات البشر و نقل البضائع، وقد تحدثت الإذاعة نهار اليوم عن بطاقات التعريف و عن لون هذه البطاقات إلى غير ذلك من علاقاتنا مع الشقيقة الجزائر على أن اللب الذي يثير الانتباه يتمثل في فض مشكلة الحدود الفاصلة بين تونس والجزائر إذ كلنا يعلم  وقع هذه المشكلة و تأثيرها لا فقط في العلاقات التونسية الجزائرية بل أيضا في علاقات جميع أو جل الدول المتجاورة و التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار مثلما هو الحال بالنسبة لجميع الدول الإفريقية الحديثة العهد بالاستقلال، فإذا ما أردنا التعمق في البحث عن الأسباب و المسببات لا بد أن نستنتج من بحثنا أن المستعمر اعتنى قبل انسحابه بتسوية جميع المشاكل ما عدا مشكلة الحدود فقد تركها سواء عن قصد أو عن غير قصد قائمة الذات و لنترك الحكم في ذلك للتاريخ، على أن الأمر الذي تجدر الإشارة إليه هو أننا تألمنا في حياتنا القومية و اليومية من جراء هذه المعضلة المنعقدة خصوصا وان الحدود لم تكن واضحة بالرغم عن الخرائط الجغرافية و الاتفاقيات التي تجاوزتها الأحداث على ممر السنين وقامت مقام الوضع القديم أوضاع جديدة مرجعها الشؤون الاقتصادية و تنقلات البشر و تفاعل المصالح و ما إلى ذلك من عوامل تعجز الحدود المصطنعة عن إيقافها و التصدي لها فهناك تعاون بشري متبادل و مجموعات بشرية تنتمي إلى لغة أو ديانة موحدة فمن البديهي أن تغار هذه المجموعات على حدودها و ما تعتبره حقوقها المكتسبة و سلامتها الترابية و حرمة حوزتها فتراها حينئذ خصوصا إذا كانت حديثة العهد بالاستقلال تتمسك تمسك المستميت بما تراه حدودها السياسية الطبيعية و لا يخفى ما ينجر عن ذلك من مشاكل أقل ما يقال فيها أنها تقوم حجر عثرة في سبيل التعاون المشترك النزيه الذي عملت من أجله طويلا معظم الدول و الشعوب حتى عندما كانت في طور الاستعمار.

وكنا جميعا ننتظر بفارغ صبر رفع الستار الحديدي الذي كان قائما بيننا و بين الجزائر الشقيقة لنشرع في تعاون مثمر فكانت النتيجة أن المجاهد الأكبر الذي منعه الاستعمار من زيارة الجزائر و الاتصال بشعبها الأبي لم يتمكن حتى الآن من تحقيق هذه الأمنية الغالية و قد تساءل الكتاب و الصحفيون عن السبب الداعي إلى: وقوع هذا التبادل في الزيارات و هذا مثال بسيط لتكونوا بينة من الأمر و من مدى حساسية هذا الموضوع خصوصا وأن لنا وجهة نظرنا و للجزائر وجهة نظرها و قد اتخذ كل منا موقفه تجاه مشكلة الحدود زد على ذلك الأسباب الشاملة والعوامل المشتركة بيننا و بين بقية الدول الإفريقية.    

موقف أملاه الواجب

فنحن في تونس بمجرد إحرازنا على استقلالنا حرصنا على استرجاع حدودنا السياسية، غير أننا وجدنا أمامنا معارضة من الاستعمار نفسه الذي وقف حجر عثرة في سبيل تحقيق مطامحنا، وذلك لأن الاستعمار اذذاك كان لا يزال يحتل بعض المناطق التونسية في الجنوب وفي الشمال، وجيوشه منتصبة بالجزائر التي تخوض غمار حرب تحريرية وكانت لنا في هذا الموضوع مواقف تستجيب لحقوقنا أملاها علينا واجبنا غير أننا نستطيع أن نقول، إننا اتخذنا هذا الموقف في نطاق العلاقات التي بيننا وبين المحتل فطالبنا باسترجاع جانب من الصحراء راجع بالنظر إلى تونس، باعتبار أنه تم جلاء الجيوش الفرنسية عن تونس باستثناء بعض المناطق في الجنوب التونسي وبنزرت، فطالبنا بهذا الحق وجرت اشتباكات بيننا وبين الجيش الفرنسي، وعندما توجهنا إلى الأمم المتحدة طالبنا بجلاء الجيوش الفرنسية عن بنزرت وعن المنطقة الصحراوية بالجنوب التونسي.

وأنتم تعلمون طبعا أن هذا الموقف قد تجاوزته الأحداث، أولا لأنه تم الجلاء عن بنزرت وعن كل المراكز العسكرية بالجنوب الراجعة إلى تونس، غير أنه بقيت قطعة بسيطة جدا مضبوطة الحدود بيننا وبين ليبيا، أما بيننا وبين الجزائر فهي غير مضبوطة وليس هناك خط واضح يفصل فيما بين التراب التونسي والتراب الجزائري.

ثم جاء الحدث السعيد المتمثل في استقلال الجزائر، وانتصار الشعب الجزائري في معركته التحريرية ونضاله من أجل الكرامة والسيادة والاستقلال، فبرزت للوجود الدولة الجزائرية الشقيقة المتألفة من جميع الأراضي التي كانت تحتلها فرنسا في السابق تحت اسم الجزائر، ولها وضع سياسي خاص باعتبارها مستعمرة فرنسية.

وحدث ما حدث من خلافات أساسية تتعلق بمصير الأراي التي كانت محتلة من طرف الجيش الفرنسي، ثم أصبحت محتلة من طرف جيش التحرير الجزائري كبقية المراكز العسكرية التي كانت تحت تصرف الجيش الفرنسي، باعتبارها تابعة للتراب الجزائري، وكان دخول جيش التحرير إليها عن حسن نية، بينما نعتبرها نحن في تونس مراكز عسكرية فرنسية منتصبة فوق أرض تونسية، فطالبنا باسترجاعها وأثيرت مشاكل في الحدود الفاصلة بين البلدين غير أنه لم يحصل ما حصل بين الجزائر والمغرب، ولم ترق الدماء، وأدرك الجميع في تونس والجزائر أن المعضلة الأساسية التي لا بد من القضاء عليها تتمثل في الخلاف القائم بين القطرين من أجل الحدود، بينما هي مسألة بسيطة في حد ذاتها لا معنى لها.

ولئن بقيت هذه المشكلة قائمة الذات فلأننا نعتبر أن هناك حقوقا مضبوطة بمعاهدات لا يمكن لنا التنازل عنها على أن هذا الضبط في الحقوق لم يقع بغاية الوضوح إلا فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بيننا وبين ليبيا أما فيما يتعلق بالحدود التونسية الجزائرية فالمسألة كانت تحتاج إلى تفاوض واتفاق مع السلط الجزائرية.

ولئن كنا توخينا طريق المطالبة بحقوقنا في الجنوب التونسي فلأن هناك تضحيات من الجانب التونسي ودماء تونسية قد أريقت لأننا عندما دخلنا معركة الجلاء اقتحمنا المعمعة على أساس الجلاء عن بنزرت وعن أقصى الجنوب التونسي.

آفاق جديدة

أما اليوم وقد تفيأت الجزائر بعد تونس ظلال الاستقلال فقد أصبح من واجبنا جميعا تجاوز مشكلة الحدود بأي وجه من الوجوه خصوصا وقد تفتحت أمام الشعبين الشقيقين آفاق جديدة نحو المزيد من التعاون شعورا منهما بوحدة المصير وإمكانية تحقيق الحلم الذي كافحت من أجله شعوب المغرب العربي الأربعة إذ ليس من شك في أن كفاحهم كان يرمي أولا وبالذات إلى تحقيق الاستقلال ثم إلى تحقيق هدف آخر لا يقل أهمية عن الأول وقد بذل الجميع النفس والنفيس من أجل تحقيقه ألا وهو ضم جميع أطراف شمال افريقيا إلى بعضها البعض وإرساء المغرب العربي الكبير على قواعد ثابتة متينة.

ثم ظهرت بعد ذلك فكرة التجمعات الاقتصادية الكبرى وهو اتجاه جديد يحتوي على إمكانيات جدية وعوامل إيجابية تجعلنا نفضل الأهم على المهم ونضحي ببضعة أمتار من الأرض مقابل إيجاد تعاون متين وتحقيق إمكانيات أخرى تدر على كافة بلدان لمغرب العربي الكبير الخير العميم وقد نكون من خلال هذه البادرة الطيبة عبارة عن مرجع ونبراس ننير أمام إخواننا من الشعوب الافريقية الأخرى التي مازالت تتعثر في خضم خلافاتها من أجل الحدود وما إلى ذلك من مشاكل بسيطة طريق الهدى والوئام فيقدمون على تسليط العقل على العاطفة وتقديم الأهم على المهم وتكون لهم فينا أسوة حسنة بيد أنه ليس في متناول كل إنسان أن يقوم بمثل هذه البادرة إذ لا بد أن تكون لديه القوة الأدبية الكافية ورباطة جأش غير مألوفة ليتمكن من اتخاذ ما اتخذناه من حلول منطقية.

ولقائل أن يقول ماذا صنعتم بالدماء التي أريقت وبالمواقف التي اتخذتموها ؟

فليس من السهل أن يقع تجاوز ذلك إلا أننا نعتمد في ذلك على ما لنا من قوة معنوية ومن تأثير أدبي خصوصا وأن التفاوض في هذا الموضوع ليس وليد هذه الأيام بل الحوار دائر منذ أمد بعيد أي منذ أن اقتنع حضرة المجاهد الأكبر باتباع هذا الاتجاه وفكر في حالة المغرب العربي وما كان فيه من مشاكسات وتوتر إذ هناك توتر بين الجزائر والمغرب وشبه توتر بين تونس والجزائر في حين أنها مازالت تواجه مشاكلها الداخلية وأن الشعب الجزائري قد لا يكون على بينة من المحتوى الحقيقي للبلاد ولأبعاد التراب الوطني فإذا بالناس أصبحوا يطالبون باسترجاع الأراضي من هذه الناحية أو من الأخرى حتى أصبح الجزائريون في حيرة من الأمر وفي حرج من هذه المسألة وءالت الأمور إلى أزمة ثقة، وأفضى التوتر في العلائق إلى الإمعان في التسلح بغية المحافظة على استقلال البلاد وخشية المطالبة التي قد تصدر من هذا أو ذاك.

بيد أن هذا التصاعد في مضمار التسلح ما هو الغرض منه؟ فليس بجانبنا عدو نخشى غيلته، بل نحن أخوة، وهل تجوز الحيطة من الأخوة ؟ بحيث أن استقلال أقطار المغرب العربي بدل أن يكون فاتحة خير وعمل متواصل يهدف لازدهار الشعب ولتحقيق كرامته قد انقلب نكبة لأنه أدخل على النفوس حيرة من نوع جديد. فبعد أن كانت الحيرة وعدم الاطمئنان متأتين من وجود الاستعمار الذي لم يكن يتورع من دوس الكرامات إذا بالكفاح الذي كان متجها إلى استرجاع الوطن السليب قد اتجه بعد الظفر بالاستقلال إلى المحافظة عليه من خطر جديد ناشئ من سوء التفاهم ومن الحذر المتبادل بيننا عوض أن يتجه إلى التغلب على التخلف ومحو أسباب الخصاصة والبؤس.

أزمة ثقة تم القضاء عليها

هذه الظاهرة قد فكر فيها المجاهد الأكبر، وءالى على نفسه أن يجد حلا لها، وقال لي ذات يوم –وهذا أقوله للتاريخ- إني أشعر بأن أمامي عملا لا بد لي أن أؤديه لأني أعتبره جزءا متمما لرسالتي في هذا الوجود وأود أن أقوم به ما دمت بقيد الحياة، وتنفيذا منه لهذا العمل كلفني بتأدية زيارتين لا زيارة واحدة بمناسبة الاحتفال بعيد الثورة الجزائرية، في نوفمبر من عام 1967 وهذا يدل على أني لم أذهب لأعبر فقط على تضامن تونس مع شقيقتها الجزائر بتلك المناسبة المباركة، بل ذهبت للقيام بمأموريتين: إحداهما إبلاغ الرئيس هوارى بومدين نظرية المجاهد الأكبر فيما يتعلق بتطوير العلاقات بين قطرينا و الأخرى القيام بمهمة في نفس المعنى لدى جلالة ملك المغرب الأقصى، و خلاصتها إذا كان الاستعداد الموجود في تونس له ما يماثله في الجزائر و في المغرب فلربما يكون قد آن الأوان لأن ندخل إرادة شعوبنا حيز التطبيق ونقبل على المزيد من التعاون والتضامن والتكامل والانضمام شيئا فشيئا، وهذا لا يكون بطبيعة الحال إلا إذا زالت المخاوف والحذر المتبادل ورفعت كل العراقيل القائمة في وجه الاتحاد المنشود.

وغنى عن البيان أن المسألة ليست شكلية بل هي جوهرية وليست عبارة عن أخذ و عطاء و مساومات بل هي أبعد من هذا و أسمى، والرهان المراد كسبه في هذا الموضوع يرمي في نظر المجاهد الأكبر إلى أن يكون العمل الذي نقوم به في هذا الصدد متبوعا بإنجازات جدية لا عبارة عن مبادرة تخص تونس و الجزائر فحسب و تتحدث عنها الصحافة بأسلوب مقتضب كأنما نحن خجلون من موقفنا وكأنما نحن على وجل من أن يرمينا بعضهم بالتنازل للجزائر عن أشياء تحت القوة والقهر، بينما نحن حين نقرر اتخاذ موقف من المواقف فإنما نقصد به المصلحة و لا تأثير في اختياراتنا للخوف و لا للطمع.

لقد قلنا هذا و أكدناه من أول يوم وأعلنا بأن هذه العملية سيكون لها أثرها البعيد، و أشار الأخ عبد العزيز بوتفليقة البارحة في الكلمة التي ألقاها إلى أن ما وفقنا إليه سيكون بمثابة سابقة يرجع إليها ويعتمد عليها إذ هي ترتكز على تغليب العقل على العاطفة وإيثار المصلحة الشاملة و الأبعد من غيرها على المصالح الجزئية والاعتبارات الثانوية و تقديم الأهم على المهم.

رائدنا سعة الصدر

هذا ما نقصده و هذا ما صرحنا به، والحق أقول أننا وجدنا استعدادا و تجاوبا لدى من تخاطبنا معهم في الموضوع، و عندما ذهبت إلى المغرب لم أعد رأسا من الرباط إلى تونس لأعلم المجاهد الأكبر بفحوى ما دار بيني و بين قادة المغرب الشقيق، بل قد أشار على المجاهد الأكبر بأن أعرج في طريقي على الجزائر لأعلم الأخوان بما أرسب إلايه محادثاتي في المغرب، وفعلا فقد وجدت الأخوان في انتظاري في مطار الجزائر وأعلمتهم بنتيجة الحديث، وقلت لجلالة ملك المغرب أن المجاهد الأكبر يبلغك بكل أخوة اعتبارا للعلاقات التي بيننا و للتعاون الذي استحكمت حلقاته من وقت الكفاح في عهد ساكن الجنان والدكم المرحوم الملك محمد الخامس و تواصل بعد الاستقلال أن الوقت قد حان لأن يراجع الإنسان نفسه و لأن نغلب العقل على العاطفة و نقدم الأهم على المهم ونقارن بين المكاسب و النتائج التي ستحصل من هذا المنطلق الجديد و بين التي ستحصل إذا نحن بقينا متمسكين بهذا الموقف السلبي العقيم الذي هو الموقف السائد في ذلك العهد، فليكن رائدنا سعة الصدر ولنعتبر بتضحيات الشعب الجزائري وفي ذلك ما ييسر انفراج كل أزمة.

لقد كان لهذا الكلام وقعه الحسن في نفس مخاطبي، بيد أن الشيء الذي قد يدعو إلى الاستغراب هو أن البادرة التوفيقية بما أنها صدرت عن تونس فإن الوفاق سيتم بين الجزائر و تونس قبل أن يتم بين المغرب و الجزائر و الذي حصل كان عكس المتوقع، وهذا لا نتحرج منه بل نعتبره بادرة خير و أثرا طيبا حميدا له أحسن النتائج

نعم إن المسألة طالت نوعا ما بيننا و بين الجزائر، لكن الشيء الذي أحب أن أقوله لكم وكان في الحقيقة النقطة الفاصلة و الحاسمة في مجرى المحادثات التي دارت بيننا وبين حكومة الجزائر الشقيقة هو أنه أثناء الزيارة التي أداها السيد عبد العزيز بوتفليقة لتونس في شهر مارس من السنة الفارطة قد تناول الحديث لهذه الأمور كلها.

ومن جملة هذه الأمور أن توجه الأخ عبد العزيز بوتفليقة وهو موجود الآن بتونس- إلى المجاهد الأكبر بقوله ليس من شك في أنكم المناضل الأول في هذا القطر المغربي الكبير ولكم فضل السبق في هذا المضمار وفي اعتقادنا أنه سيبقى لكم الفضل في تتويج هذا النضال بالقضاء على ما نعانيه حتى الآن من رواسب الاستعمار و من جملة هذه الرواسب مشكلة الحدود فإذا تمكنتم يا حضرة المجاهد الأكبر من فض هذه المشكلة سوف يسجل لكم التاريخ هذه الحسنة بمثابة رهان بالنسبة للمستقبل و المصير الأفضل.

شعور المجاهد الأكبر برسالته أمام التاريخ إزاء شعوب المغرب العربي الكبير

وكان جواب فخامة الرئيس أن قال أني أقبل هذا الرهان و أتحمل مسؤوليته أمام التاريخ فتفضلوا بالدخول في التفاصيل وفي التفاوض في الاتفاقيات المتعلقة بالاستيطان والاقتصاديات و بغر ذلك من الأمور التي لم يقع بعد النظر فيها فلدى رصيد معنوي يمكنني من الإقدام على هذا و أكثر لأني أعرف مسبقا الغاية التي نرمي للوصول إليها مع بلادي و شعبي.

و أتمنى من ناحيتي أن يقع إبراز هذه الناحية التي سيحفظها التاريخ.

وقد ابرقت لنا بعض الدول بتهانيها بمجرد ما علمت بتسوية مشكلة الحدود كما أبرق لنا عدة رؤساء ول ووزراء خارجية بتهانيهم لأنهم على بينة من مدى هذه العملية التي ّأقدمنا عليها و التي تتلخص في التنازل عن بضعة أمتار من الصحراء لا قيمة لها مقابل مكاسب لا تدخل تحت حصر ستعود بالخير على كامل أجزاء المغرب العربي الكبير و حتى على القارة الإفريقية التي سوف تقتدى بنا لا محالة.

و أننا نفضل صيغة هذا الاتفاق الذي أبرم بيننا على بعض الصيغ الأخرى الممكنة في تقسيم الرفعة الترابية المختلف بشأنها على نصفين يعود كل منهما إلى بلاد و تعرض بعده كل دولة عن الأحرى أما الاتفاق الحالي فهو أصيل إذ ساد بفضله الوئام بين شعبينا الأمر الذي لا يمكن للتاريخ أن يهمله وأن لا يسجل  هذا الفضل لذويه.

لقد أردت بهذه المناسبة أن أوضح للشعب التونسي و إن أمكن للشعب الجزائري أن للنوايا الحسنة و تحقيق الأحلام و إدخالها حيز الوجود عوامل و صعوبات و عقبات تستدعي منا ترجيح جانب المصلحة العليا الشاملة على المصالح الجزئية و تسليط العقل على العاطفة.

و المؤسف أننا لا نجد هذه القاعدة هي السائدة في التاريخ و هذا المبدأ لم يتم على أساسه حل القضايا و المعضلات التي تقف في وجه الشعوب و الدول بينما هو الآن بالنسبة إلينا أهم ما نسجله وهو مبعث ارتياحنا و سرورنا و ابتهاجنا لأنه سوف يكون بمثابة المنطلق الجديد الذي تدرسه الأجيال القادمة في المدارس و تعتبر به، فالأجيال القادمة سوف لا تتولى دراسة فصول المعاهدة فصلا فصلا، بل سوف تدرس طريقة التغلب على العراقيل المتشعبة بين الأخوة قصد التقريب بينهم و بين سياساتهم و ضم عوامل الإنتاج والإمكانيات إلى بعضها البعض وفتح باب التنسيق بينهم، و هذا سوف يفتح نافذة جديدة كانت منعدمة وهي آنفة المتبادلة و التقدير الذي سيمكن كلامنا من التفرغ إلى القيام بواجباته الداخلية و يفتح أيضا أبواب المزيد من التعاون و التضامن وضم القوى المنتجة الحية، و النوايا الحسنة، و الطاقات البشرية إلى بعضها حتى نحقق لجميع أبناء القطرين الشقيقين الازدهار و المناعة المبنية على التعاطف و التواعد و وحدة الاتجاه لتحقيق المصير الأفضل للجميع.

وطبعا لم يكن هذا الهدف المزدوج ليتحقق بين عشية و ضحاها، خاصة وقد التزمنا بالاختيار الصعب المجدى في حل مشاكلنا من حيث كل من جوهر هذه الحلول وأشكالها.

معالي الأخ،

إن عظمة الحدث الذي نحياها في هذه اللحظة الملحوظة من تاريخ مغربنا الكبير، و ما يكتنفنا من أمواج المشاعر، لأمور كلها تجعل المرء قاصرا عن التعبير، مهما غالبه من رغبة البيان و الإفصاح.

لقد حدث أن التقينا مرارا في تونس، و الجزائر، و في مختلف المحافل الدولية، و لكن لم يسبق أن توحدت الإرادة، و تضافرت الجهود، كما تم في لقائنا هذا الذي نعتبره بحق منعرجا ممتازا في العلاقات بين البلدين، و دعامة صلبة في بناء الوطن العربي، فكان لنا شرف التوقيع على معاهدة الأخوة و حسن الجوار والتعاون، وكذلك على الاتفاق الخاص بتثبيت الحدود القائمة بين الشقيقتين تونس و الجزائر، وترسيمها بصفة نهائية فاصلة.

ولقد كان هذا المشكل بالذات عاملا سلبيا في منطقتنا، يهيمن على العلاقات المغربية كلها منذ الاستقلال، وخلق جوا مفتعلا كان يرقب من بعض الجهات بروح لا تتربص بنا إلا السوء و البغضاء.

وإذا كنا كلنا نتأثر حقا لذلك التقييد على المعاهدة و اتفاقية الحدود سينفخ روحا جديدة في ذلك العدد الكبير من الاتفاقات التي سبق التوقيع عليها، و التي شملت مجالات الثقافة، والشؤون القانونية و القنصلية، والقمارق، و السياحة، و النقل، و غيرها من حقول التعاون المثمر من أجل التنمية و التطوير.

و كما أن الاتفاقات التي وقعنا عليها اليوم قد امتدت هي الأخرى إلى ميادين جديدة هي من الأهمية بمكان، بحيث سيصبح لها تأثير حاسم على المستقبل.

وذلك أنه لا ريب في أن اتفاقات البترول و الغاز الطبيعي و التبادل التجاري و التعاون الصناعي، و التحويلات المالية، و الممتلكات و سياسة الاستيطان، و غيرها من الاتفاقات الأخرى التي لا تقل أهمية عن سابقاتها، لسوف تدخل تغييرا جذريا على الجهد الاقتصادي في البلدين، بفضل ما تضمن لهما من فرص التكامل، و التعاون، و التنسيق.

كما أن هذه الاتفاقات تشكل في حد ذاتها عملا جريئا، حيث أن دولتين شقيقتين متجاورتين قد توصلتا، وبمحض إرادتهما فقط، إلى حل جميع المشاكل و أشباه المشاكل بينهما، و أصبحت علاقاتهما ذات نوعية خاصة تساهم في خلق وضع جديد في المنطقة كلها، إذ أن هذا الحل لهو فتحة سيكون لها تأثيرها الفاصل على فض جميع المشاكل في المغرب العربي.

بل وإن مما يزيد من أهمية هذا الحدث أنه قد يصبح مرجعا سديدا، إذ يجسم فلسفة منظمة الوحدة الإفريقية بخصوص حل مشاكل الحدود، بل وفي العالم الثالث كله، الذي كان قد اتخذ قرارا بهذا الشأن في مؤتمر عدم الانحياز بالقاهرة، قدوة بهذه الفلسفة، واقتناعا بمعللابها و سلامة منطقها.

أخي العزيز،

لقد أكدت الأحداث والنتائج أن كل مبادرات الجزائر في هذه المنطقة، من المملكة المغربية، إلى الجمهورية العربية الليبية، ومن الجمهورية الإسلامية الموريتانية، إلى الجمهورية التونسية اليوم، لتهدف إلى توفير أسباب التعاون بين بلدانها، والمساهمة في توطيد الطمأنينة والاستقرار في ربوعها.

وما دمنا نعيش اليوم في عصر التجمعات الإقليمية، وما دام هذا هو الطابع الجديد لسياسة دول متقدمة يفرق بينها الكثير،  ……………

أخي العزيز،

 إن ما أنجزناه اليوم، مع احترامنا لاختيارات كلا البلدين، لمن شأنه أن يساعدنا على تنسيق الجهود في المجال الدولي مع الأشقاء و الجيران، لإبراز دور المنطقة كعامل فعال له وزنه في الصراع من أجل نصرة الحق والقضايا العادلة، والمساهمة في تدعيم الأمن العالمي، و توثيق التعاون بين الأمم، و تعزيز القيم الإنسانية العليا.

سيما و أن بناء المغرب العربي ليس غاية في حد ذاته، بل هو مرحلة حتمية لإقامة وحدة عربية شاملة، و ما المغرب العربي إلا امتداد لمشرقهن و ما المشرق العربي إلا امتداد لمغربه، مشاكل هذا الوطن هي مشاكلنا، ومحنته محنتنا، يكترث كل جزء لاكتراث الثاني، لما يجمع بينهما من أواصر الأخوة ووحدة المصير، وعلى كل فسنبقى على عهدنا، مهما كلفنا ذلك، في محاربة الاستعمار والأمبريالية، والصهيونية، لاسترجاع حقوقنا المشروعة، وأراضينا السليبة، وضمد كرامتنا الجريحة.

وأننا إذ نقف إلى جانب الثورة الفلسطينية بدون قيد ولا شرط، لنعمل في نفس الوقت على توحيد صفوف الفلسطينيين، ورفع أصناف الوصاية عنهم، وشجب التدخلات في شؤونهم، كما ننادي بوجوب السماح لهم بالمنطلق الحيوي لمقتضيات تفاحهم، حتى يحققوا هدفهم في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، يتساوى فيها جميع أبنائها في الحقوق والواجبات، مهما اختلفت أديانهم وأجناسهم.

ذلك هو مذهبنا في نصرة قضايا التحرر والعدالة، سواء في قارتنا الإفريقية، أو في غيرها من أنحاء العالم، وخاصة فيما يتعلق بتضامننا المطلق مع الكفاح المثالي لشعب فيتنام الصديق.

أخي الكريم،

إن هذه الأيام التي قضيناها بين أخوة كرام ستترك في نفوسنا أثرا عميقا.

فشكرا لكم على حرارة اللقاء الأخوي في هذا البلد الطيب المضياف و هنيئا للجميع على ما بذل من جهود مباركة موفقة.

ولكم، يا سيادة الرئيس، أسمى عبارات الود و التقدير على رعايتكم الخاصة، و ذاك الاهتمام المتواصل بقضايانا المشتركة، و تلك العناية المتوالية بمصير المغرب العربي، كلها خصال جديرة بالمناضل الكبير الذي عهدناه فيكم على الدوام.

وأنتم، يا أخي العزيز، كان لكم شرف السهر على مختلف مراحل الإعداد لتجسيد هذا الإنجاز العظيم، فكفاكم جزاء ما حققناه اليوم لخير شعبينا، و مغربنا الكبير، وأمتنا العربية.

ورجائي لديكم اليوم أن تنقلوا شكرنا الخالص إلى سائر المسؤولين في هذا البلد الحبيب، وأن تبلغوا على الخصوص فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة تمنيات الرئيس هوارى بومدين بالصحة و دوام السعادة، و تحياته الأخوية الصادقة، و أن تعربوا له عن جزيل امتناننا  لما خصنا به من لطف و حسن استقبال أثناء زيارتنا الأخيرة، و عظيم تقديرنا لما ضربه لنا حينذاك من أروع الأمثلة في التمسك بفضيلة الرجوع إلى ما يراه المرء أحق وأكثر صوابا في معالجة المشاكل و تذليل الصعاب.

وإذ أدعو الله أن ينعم على فخامته بالشفاء العاجل، ليستأنف كفاحه من أجل خير هذا القطر العزيز، إني لعلى ثقة من أن زيارته لبلاد الجزائر ستمكنه من أن يلمس عن كثب ما يتمتع به من حب و تقدير في ربوعها و مدى ما يكنه شعبها لشقيقه الشعب التونسي من صادق الامتنان على كل ما لقيه منه من تأييد و مناصرة في كفاحه التحريري، و من خالص الأخوة وعميق المودة، لكل ما يربط بينهما من وشائج، و يجمعهما من مصير مشترك، يتجاوزهما مغربا و مشرقا.

و السلام عليكم      

 

Laisser un commentaire

20 + quatre =